اللغة العربية الشاعرة

ماذا لو: لم تكن اللغة العربية اللغة الشاعرة؟

وقت القراءة: 15 دقائق

هل تذهلك قدرة بلاغة اللغة العربية الشاعرة على استثارة حواس المرء لغير ما توظفت له؟ حين تجد المرء يتذوق الكلمات إثر قراءة قصيدة ما ذوقًا حقيقيًا؛ فيشعر للحزن مرارة في حلقه متمثلة تمثلًا لا ذهان فيه، فكأن صاحب البيت أطعمه مما وجد في قصته.

وتجد المعاني المعنوية العالية لها حضورها المادي، فإذا بشعور الغضب في البيت النفيس يتجلى كرجل مصارع يبارزك وتبارزه حتى تحمر وجنتيك دون حركة.

وينساب منطق الأشياء من فم الحكيم مغلف بحرارة مُحبة صَبغت بها الحوادث حكمته، فتجد للمنطق في نفسك أثر تضطرم له مشاعرك وتجيش له عواطفك، فتنفعل من حيث يكفيك ويشفع لك فقط أن تُقنع. أليس بديعًا هذا التضافر والتوازن بين المنطق والشعور والجمال!

 إنها يا سادة اللغة العربية الشاعرة التي عنونت الجزيرة إحدى الحلقات الوثائقية عنها باللغة العربية من الجمال إلى الكمال، فكأن العالم حِيز لها بين حروفها!

محتويات المقال

 تُرى لماذا يأتي النص العربي جميلًا وقويًا إلى هذا الحد؟

 لماذا ما زالت تحركنا الأطلال لأم كلثوم وتجعلنا نبكي رغم الكم الهائل من الأغنيات التي أتت بعدها لتعبر عن الفراق؟

 أليس الفراق هو ذاته؟ أليست الأطلال ذاتها؟ أليس الحب هو هو ذاته؟

بالمناسبة يمكنك أن تستمع معي إلى الأطلال أو أغنيتك الفصيحة المفضلة كخلفية لهذا المقال

 

فلنفترض أنك الآن تستمع معي لصوت السيدة أم كلثوم وهي تشدو:

يا فؤادي، يا فؤادي، يا فؤادي لا تسل أين الهوى؟

كان صرحاً من خيالٍ فهوى

اسقني واشرب على أطـلاله

واروِى عني طالما الدمع روى

فها أنت الآن مستعد شعوريًا لنتسائل:

كيف تَغزل القصائد الغزلية مشاعرنا لتصنع منها كوفية رقيقة كفؤاد الحبيب، رقيقة كأرق ما خاط القماش -وعلى رقتها- حين تحيط بكتفيه؛ يتسلل إلى فؤاده دفئًا، يلاشي برودة السنوات؟ 

ما سر العرببة؟

هل تُجسَد الكلمات في العربية وتصبح مادية بشكل ما؟

هل هي المعاني الدقيقة العميقة واسعة المدى وغزارة

معجمها؟ 

أم صدق الشعور وطيب فؤاد حامليه؟ 

هل هو ذكاء الشاعر الذي وراء الكلمات؟

أم الصوت، أقصد صوت اللغة؟

أم اللغة بفلسفتها وتصورها للحياة؟

قبل أن آخذك في رحلة ربما يسرت طريق الأجوبة، دعني أهديك هذا المقطع؛ حيث يستمع أحد الناطقين بلغة أجنبية إلى الأطلال التي تستمع أنت إليها فتذيبك معاني الكلمات، بينما هو لا يفهم ما الذي تعنيه هذه الكلمات بالضبط، ومع ذلك تجد تعبيراته كالذي بُهت بما سمع فيردد: “أود لو أظل أسمعها إلى الأبد ولا شيء آخر، إنها سر الموسيقى، إنها الموسيقى ذاتها.” 

أجنبي يحلق في الآفاق ويستمع إلى الأطلال

 هذا فقط وقع الكلمات بغير معانيها على قلبه، طقطقات القافية في نهاية البيت، والقدرة الموسيقية اللغوية للعربية التي تسمح لكوكب الشرق أن تذهب بالألحان حيث عالمية الشعور، والمعاني الكامنة التي يتم نقلها للمتلقي ووقع الكلمة على النفس بدون فرق بين عربي أو أعجمي، استجابته فقط جراء ألفاظ العربية الواضحة المبينة! دون احتياج لوسيط أو معجم. 

كل هذا وأكثر سنعرفه سويًا، فهلا نبحر؟ ⛵

هل اللغة العربية الشاعرة أقدم اللغات؟ وهل يعد هذا فخر لها؟

الإجابة المختصرة: لا.

وهذه الإجابة حين نقارنها بمكتسبات العربية نجدها هي الفخر، فليس إثبالقبائل العربية القديمةات القدم بمحل فخر وحده حيث يظن البعض؛ فالتاريخ الطويل للغة الشاعرة -أقصد اللغة العربية- مصادرها المتشعبة المنبثقة من قبائل رحل، تختلف سماتهم، أكسبها مرونة وسعة لم تكتسبها اللغات التي استمر تطورها بشكل خطي لا تتنافس عليه واردات متنوعة، من قبائل لها سمات أنثروبولوجية وثقافية متباينة بشكل ما كالعربية.

 ومن مذهب اتفاقنا على دور الكلمة في بناء العلاقات الإنسانية، نتفق على أن كل قبيلة بما تحمله من مفاخر، وهزائم، وعادات وتقاليد، ومكانة اجتماعية، ووضع اقتصادي، وسلطة، وما أفرزه كل ما سبق من مشاعر؛ سيجعل اللغة على مدار عمرها، تنتخب أجود ما تجود به قرائح كل هؤلاء، هذا باعتبارها من أقدم هذه اللغات إلى جانب ميزة وفرة وتنوع المستخدمين لها، فنصل إلى نسخة منقحة تحتوي على 12 مليون كلمة متفردة، لا تستطيع أن تضع كلمة منهم محل الأخرى بغير أن تتغير قوة تأثير الكلمة ودقتها، فليس الحب كالعشق كالهيام، وهذا ما سنفصل في شيء يخصه حين نأتي للطريقة التي تجعلنا العربية نقع في الحب بها، وكيف يختلف حب العربي عن غيره من متحدثي بقية اللغات؟

 ولكن مهلًا معي هنا قليلًا، لنعرف لماذا تنفرد اللغة العربية انفراد تام يميزها عن كل ما نُطق بغير حرفها ونظمها حتى يقال عنها لغة شاعرة، تصنع الشعر وتفعله بذاتها؟

ومن صاحب هذه النظرية؟

 ومتى بدأت؟

 وما الذي تعنيه؟

اللغة الشاعرة، أي التي تفعل الشعر وتصنعه…

في القرن التاسع عشر بدأ علم اللغويات الحديثة، والذي يدرس اللغة دراسة تأصيلية، تعود بنا إلى المنبع، إلى الفلسفة التي تحيط بطريقة نطق أهل لغة ما لهذه اللغة بهذه الطريقة، مستخدمين هذه الأصوات بالذات وهذه الطريقة في الكتابة. وقبل القرن التاسع عشر واللغويات الحديثة بما يقارب الألف عام، نشر ابن جني كتابه الخصائص، والذي ألم فيه بفقه اللغة العربية وفلسفتها، بشكل علمي منطقي رصين. 

هل لو غيرت ترتيب نفس الحروف ستحصل على نفس المعنى مهما اختلف الترتيب؟

خذ مثلًا:

  • قول 
  • لقو
  • لوق 

هذه ليست محاولة لقراءة إحدى لوحات السيارات بطرق مختلفة، وليست محاولة لحل الكلمات المتقاطعة، إنها نظرية اقترحها ابن جني، تدعم أن نفس حروف كلمة ما بالعربية إن اجتمعت مع اختلاف الترتيب، سيكون معاني هذه الكلمات متقارب، لأن لهم جذر واحد من الحروف له دلالة على معنى وحيد.

هل تصدق؟

دعنا نتعرف على معاني الثلاث كلمات، والتي يقول ابن جني أن جميعهم ذي معاني متقاربة تفرعت عن نفس الأصل اللغوي.

  • القول: هو أن تقيل شخصًا من منصبه، أو أن تقيل شيئًا من مكانه فتحركه.
  • اللوق: أن تثني شيئًا ما فيتحرك حركة لينة.
  • اللقو: هو الطائر سريع الطيران. 

ربما تكون صدقته، فجميعهم يدل على الحركة، لذا دعني أبوح لك بسرّين:

  1.  وجود انتقادات موجهة لهذه النظرية لابن جني، لا تحطم معنى ما أسلفنا بيانه، ولكن متعلقة بعدم تعميم الأمر على كافة جذور اللغة ذات نفس الحروف مختلفة الترتيب، فلربما جئت بثلاثة حروف وبدأت ترتيبهم لتحصل على كلمتين متضادتين. وهذا لا ينفي ما جد به ابن جني وسبق وصدق به في الخصائص، حيث فصل تفصيلًا عجيبًا في علاقة اللفظ بالمعنى، وعلاقة الحروف بالمعنى أيضًا، وتأثير النغمة على المعنى، وعلاقات الحروف ببعضها، وغيرها من الأمور النافعة.
  2. أني لم أكن أعلم معاني هذه الكلمات قبل أن أكتب هذه السطور، سوى أني بحثت فتعلمتها وربطها بما أريد أن أفهمه، فعلم معي على فكرة المعاجم وكيفية الاستفادة منها ككاتب محتوى، لأننا سنورد فيها ونبين في فقرة تالية.

اليوم العالمي للغة العربية

ومن محاولات ابن جني التي مضت في دروب العربية من 1000 عام، في محاولة للوصول إلى جوهر اللغة العربية الشاعرة إلى العقاد الذي ألصق بها سمة شاعريتها في القرن العشرين في كتيب زادت صفحاته عن المائة صفحة بقليل.

وقبل أن نفترض تلاشي الشاعرية عن العربية ونسأل ماذا لو لم تكن اللغة العربية لغة شاعرة كما قرأت في العنوان، دعنا نقف على شاعريتها وندركها…

ماذا تعني اللغة الشاعرة؟ 

في قصد العقاد، شاعرية اللغة على وزن فاعلة أي أن اللغة هي التي تصنع الشعر، والشعر ليس القصائد فقط، ولكن النغمة الموسيقية، والمجاز في الشعر الذي يربط الواقع بالخيال، حتى وإن كان كلامًا منثورًا أو حتى كلامًا غير أدبي! فالعربي الفصيح أديب بليغ بسليقته، فطرته طبيعة العربية على ذلك. ولأن هذه خصيصة تمتاز بها العربية؛ تجدها تمتلك من الشعراء المجيدين العظام ما يفوق أي لغة أخرى، كأنها إن تُركت حروفها لتنساب عشوائيًا فوق الورق لنظمت قصيدة بليغة مبهرة، إن انسياب الحرف كما قلنا بغير تكلف أو إدعاء، كالفنان الذي نثر الألوان دون عمد فأنتجت لوحة بارعة الجمال، عميقة المعنى.

هل اللغة العربية لغة فنية؟

فهل كان للرسام في هذا كل المجد أم في طبيعة هذه الألوان شيئًا من السحر؟ 

كذلك هي اللغة العربية، لغة شاعرة ساحرة: على مستوى الحرف واللفظ والجملة في مجملها، كما بين العقاد.

 شاعرية الحرف العربي:

اللفظ العربي فصيح كما قال ابن جني، معللًا الفصاحة بتباعد مخارج الحروف، فتقف على اللفظة وتنطق كل حرف، فإذا بالكلمة تأخذ وضعها، فتنغمها في فمك، تطيل حروفًا وتُقصِر حروفًا، وكلُ ظاهر في موضعه، جدير به، دالًا على معناه، تشعر بفخامته حين يُنطق، فتجد  نفسك ترهف السمع حين سماع العربية الفصحى السليمة، لمجرد الاستمتاع بهذه الاختلافات، حين تنتقل من حرف لغيره، فكأنك تعزف وإن لم تعرف الآلات الموسيقية من قبل، وكأنك تغني وإن لم تمتلك صوتًا كروانيًا! 

 فأنت إن استبدلت حرفًا واحدًا في كلمة بحرف آخر لأعطاك معنى مختلفًا تمامًا وربما كان نفس المعنى ولكن بمستويات أعمق، أما العجيب أن عمق المعنى دلالته مرتبطة بعمق نطق هذا الحرف المختلف.

 لنقتبس نصًا مما قاله ابن جني في هذا:

«ومما وقع في آخر الكلمة: نضح ونضخ، وهما للماء، والنضخ أقوى من النضح، ﴿فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَان﴾ الرحمن. فجعلوا الحاء -لرقَّتها- للماء الضعيف، والخاء -لغِلَظِها- لما هو أقوى منه، وذلك في سياق بلاغي متسق.»

ومن مزايا العربية أنك لديك تصنيف متصاعد يصف دقائق الشعور ودقائق الفعل، لسعة معجمها وسعة تجربة ناطقيها الإنسانية، فتقول أو تكتب ما تريده بالضبط؛ لتتم صياغته تلقائيًا بحروف تتسق مع المعنى الذي حددته بدقة من جهة، ويعطي صوته ونطقه الدلالة على هذا المعنى من الجهة الأخرى، فتجد صديقنا الذي لا يعرف العربية، يستمع للكلام، ويستشعر منه معنى قد يقارب كثيرًا معناه الحقيقي، لا لأنه أدرك المرادف لغويًا ولكنها الموسيقى الذاتية التي تجعل العربية تبدو شعرًا مُفسَرًا وإن كان الكلام نثرًا لا أوزان شعرية فيه. 

شاعرية اللفظ:

بانتقالنا من الحرف للفظ، ننتقل لمستوى غير الذي سبق، دعنا نلعب لعبة كنا نلعبها كثيرًا حين كنا صغارًا، أتحمس كثيرًا حينما أتذكرها، حين ينغم أستاذي صوته:

فعل: ضرب شرب لعب 

مفعول: مضروب مشروب ملعوب

ثم تزداد ضربات قلبي إن ارتقى مستوى اللعبة، وتعدينا الميزان الصرفي_نعم هذا الذي سبق هو المستوى الصرفي للكلمة، ودمجناه بالعروض، التي هي أوزان الشعر، حيث اكتشفت واستنبطت من شعر العرب، لا العكس، فلم يجلس الشاعر الجاهلي ليصيغ قصيدته على وزن الكذا، وكأنه يتحايل على الكلمات حتى ترضى السكن بالموضع الذي أراده لها البحر الشعري، ولكنه أتبع سليقته وما يريد أن يبوح به، فإذا بالنغمات تشعله وتدفق منه.

مثلًا في بحر الكامل الذي هو

متفاعلن متفاعلن متفاعلن:

نقيسها على قول عنترة:

ولقد ذكرتك والرماح نواهل*** وبيض الهند تقطر من دمي

 فوددت تقبيل السيوف لأنها *** لمعت كبارق ثغرك المتبسم

هنا الكلمة نفسها موزونة بميزان الصرف، لها نغمتها المستقلة والتي هي مندمجة مع ميزان العروض، ومقفاة بكلمة أخيرة لها صرفها وإعرابها، فتحدث النغمة، لتحرك فيك الوجدان، فتجد كل بحر من بحور العروض، يجلي في ذهنك حالة نفسية معينة:

  •  فإيقاع البحر شديد الحركة والاضطراب وتسارع دقات الكلمات كدقات الطبول في الحرب، يصلح لشعر الفخر وشعر الحروب، وهي من أنواع الشعر في اللغة العربية والتي انتشرت في الجاهلية.
  • أما البحر المتهادي، ذو النغمة الحنونة، وما يتخللها من علو مفاجىء، ثم انخفاض، إنما هو يصلح للتعبير عن الحب، بتقلباته وما يمر على المحب من اختلافات شعورية خلاله.

من صرف الكلمة، وصرف الكلمات بميزان له تتابع خاص الذي هو البحور الشعرية، للأفعال في اللغة العربية الشاعرة، حيث يتم الربط بين فعل ما وبين صوت الحدث، فمثلًا إن ضبطك والدك تشرب النرجيلة وتخرج منها نفسًا، فسيسمع شيئًا فيه الكثير من الكاف والراء ثم الكاف والراء فيخرج 

كركركركر 

وهو ما يعرف بالكركرة، وعلى هذا الكثير من الأفعال، أصواتها الملفوظة تشبه أصواتها حين تُفعل، لغة شاعرة ولكن واقعية بما يكفي، ألا توافقني؟ 

 شاعرية الجملة:

الجملة ائتلاف بين عدة مستويات، جديدها عليك الحركات الإعرابية مثل صوت:

  •  الضمة 
  • الفتحة 
  • الكسرة 
  • ياء المثنى 
  •  واو جمع المذكر السالم

ما ينحو نحوه النحو من نغم يعد على مستوى متشعب العلاقات، غير منوط بحرف في ذاته أو جملة في ذاتها، غير أنه إذا جاء في أخر البيت في القصيدة أثر في القافية، والقافية لها ارتباط بالحالة الشعرية، فمن المعروف أن الياء قافية الشجن حيث الكسرة التي فيها تجعلها ملائمة لأحزان المجنون حيث ينشدنا:

تذكرت ليلى والسنين الخواليا *** وأيام لا نخشى على الدهر ناهيا

اللغة العربية الشاعرية

إذًا نجمل ما سبق من شاعرية للغة العربية، ونضفر نغمة الحرف والصرف والحركات الإعرابية، مضافًا إليها التنسيق والترتيب، فتُعزف سيمفونية لا مثيل لها، حتى وإن كنت تتحدث الفصحى مع صديقك لا حين تنشد الأشعار، للعربية رونقها الذي يجعلها دائمًا ما تضيف لقولك فوق ما تقول.

انتقل العقاد من موسيقية اللغة إلى المجاز في العربية، بقدرته المذهلة على تصوير الأشياء والتشبيه والإشارة إلى الجزء من خلال الكل وغيرها من الطرق التي نعتادها حتى في الأمثلة الشعبية وحديثنا البسيط اليومي، ولكن اسمح لي أن أخذك من العقاد إلى كاتب آخر لا أظن هناك من أفصح عن قدرات المجاز في اللغة العربية أوضح منه، وهو سيد قطب في نظريته التصوير الفني في القرآن الكريم، فهيا بنا نتعرف عليها. 

ما هو التصوير الفني في القرآن الكريم؟

تعلم أن اختيار اللغة العربية ليكون بها خطاب الله عز وجل لنا، يعتبر تشريفًا كبيرًا، ودلالة على مكانتها، وقدرتها على استيعاب ما يفوق حدود الكلام البشري، فاللغة التي استطاعت التعبير عما يحويه النص المقدس، هل تتخيلها عاجزة عن استيفاء جميع الحاجات الإنسانية؛ بعلومهم، ومنطقهم، وتقنياتهم، وحضاراتهم، التي هي في النهاية بشرية لم تمسها إلهية النص المحفوظ؟

أعتقد الرد بديهي، أما السؤال: ما الذي أتى به سيد وعَلِمه عن النص القرآني ولم يأتي به المفسرين قبله؟ وكيف فسر سيد قطب القرآن؟ 

لماذا مكونات شخصية سيد قطب ساعدته على كشف سر القرآن الكريم؟

خلفية سيد قطب، أدبية، مرهفة، حيث امتاز بقدرة غير عادية على ذوق جواهر الأدب ونقدها، وإن اعتبرنا هذا صقلًا لطبيعته، فطبيعته الموصولة بفهم التصوير الأدبي قديمة، ألهمته منذ طفولته حين كان يقرأ النص القرآني، أن يتخيله، يتخيل تصاويره وتشبيهاته فيكون وقع النص عليه شديدًا، كانت الآية تُمثَل أمامه على مسرح الحياة بينما هو يسمعها فيرى حكاية سردية تمتزج فيها حركة الطبيعة بجمالية اللغة؛ لتتكامل العناصر النفسية للآية القرآنية، فتشعر فيها ثقل الوحي، وأنه ليس والله بكلام بشر. تستخدم العربية في نقل التناسق النفسي؛ التشخيص والتجسيم والحركة كأن الآيات كما يصفها سيد «إنها الحياة هنا، وليست حكاية الحياة.»

كيف كان يتفاعل سيد قطب مع النص القرآني منذ طفولته؟

إن أردنا أن نفهم كيف كان يتفاعل سيد قطب الطفل مع القرآن الكريم وكيف كان يعيش في ظلاله، فلنأخذ آية وصف لنا كيف كان يراها وهو صغير.

قال تعالى:

(وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ) سورة الحج 

فيقول سيد الطفل: «ولا يضحك أحد حين أطلعه على هذه الصورة في خيالي: فقد كان يشخص في خيالي رجل قائم على حافة مكان مرتفع كالمصطبة  _فقد كنت في قرية_ وهو قائم يصلي ولكن لا يملك موضعه؛ فيتأرجح في كل حركة، ويهم بالسقوط، وأنا بإزائه، أتتبع حركته في لذة وشغف عجيبين!» 

كان تصورًا طفوليًا ولكنه وصل إلى أداة القرآن الأولى وهي التصوير الفني، التي يقول عنها أنها ليست مطبقة على بعض الآيات، ولكنها هي الأداة التي تمتد وتعتبر أسلوبًا تنبع منه جميع الحكايا القرآنية، ومن أبرز الطرق التي أتُبِع فيها التشخيص في القرآن الكريم هي الحكايات والقصص.

فما هي طرق السرد القصصي في القرآن الكريم؟

 فالقصص القرآني يعد أبرز طرق سرد الوحي، ولا تُقص القصة لذاتها فقط ولا لما هو متجاوز فقط؛ فأغراض القصة القرآنية قد تكون

  1.  لإثبات الألوهية 
  2. لإثبات النبوة 
  3. لتأكيد اتصال الإسلام بما سبقه من أديان أقرت نفس القصص.

 فتكون هنا القصة لذاتها، أو قد يكون لغرض الحكمة والموعظة فتكون القصة مجرد أداة، يُستخدم في ذلك فنيات القصة وأثرها وبالطبع الأمر مربوط بالتصوير الفني، أداة القرآن الكريم الأولى كما ذكرنا. 

كيف غلب القرآن الكريم  طرق المسرح الحديثة وكيف تخطت اللغة الشاعرة كل قدرات السينما التصويرية؟

انظر مع سيد قطب في سورة الكهف حيث يشرح الانتقال بين مشهدين في سورة الكهف:

{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (13) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (14) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (15)وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (16}.

ثم

(وَتَرَى ٱلشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَٰوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ ٱلْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ ٱلشِّمَالِ وَهُمْ فِى فَجْوَةٍۢ مِّنْهُ﴾

بعد انتهاء مشهد الفتية الذين آمنوا بربهم وما نقصه عليك من نبأهم، كيف تستطيع أن تبدأ المشهد بشكل جديد حيث الحياة خارج الكهف وحركة الشمس وارتباطها بالكهف، كأنه مشهدًا مسرحيًا، تُغير فيه الزوايا والديكور، لتدخل في حالة مختلفة من المشاعر والأحاسيس؟

تفسير سورة الكهف لسيد قطب واللغة العربية الشاعرة

يصف سيد هذه الحركة بين مشهدين:

«بهذا ينتهي المشهد، ويبدل الستار، أو تنقطع الحلقة على أحدث الطرق التي اهتدى إليها المسرح والسينما في القرن العشرين، فإذا رفع الستار مرة أخرى، وجدناهم نفذوا ما قد استقر عليه رأيهم، فها هم أولاء في الكهف، ها هم أولاء نراهم رؤى العين، فما يدع التعبير هنا شكًا في أننا نراهم يقينًا.»

أما بداية المشهد التالي:

«أنقول: إحياء المشهد؟ إن المسرح الحديث بكل ما فيه من طرق الإضاءة ليكاد يعجز عن تصوير هذه الحركة المتماوجة، حركة الشمس وهي تزاور عن الكهف عند مطلعها فلا تضيئه، (واللفظة ذاتها تصور مدلولها) وتجاوزهم عند مغيبها فلا تقع عليهم. ولقد تستطيع السينما بجهد أن تصور هذه الحركة العجيبة التي تصورها الألفاظ في سهولة غريبة!»

الفنية الموسيقية في القرآن الكريم

بعد التصوير الفني والقصص القرآني، يتطرق سيد إلى الصوت والنغم في آيات القرآن الكريم، إلى فواصل الآيات وما يقع عليه سمعك من دقات، تصل بك إلى معنى معين، متناسق صوته مع الجو الشعوري للآية، فنجد مثلًا الدقات السريعة في صورة آياتها قصيرة كسورة النجم لها حالتها النفسية التي تختلف عن وقع آيات سورة أخرى بموضوع مختلف:

وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى

مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى

وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى

إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى

عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى

ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى

وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى

ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى

فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى

فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى

مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى

أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى

وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى

عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى

عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى

ألا يشعرك هذا النغم النابع من أصوات الحرف واللفظة والتركيب بشعور ما كما بين العقاد

حتى لو لم تفهم معاني ألفاظ الآيات؟ 

إنها العربية، بقدرتها العجائبية على احتواء كلام الوحي والبشر في آن واحد!

هل شاعرية اللغة العربية تفقدها أهليتها لاحتواء المنطق؟

وإن كان المنطق التصويري والقصصي والموسيقي اجتمعوا مع سعة المعجم ودقته، فبرز لنا المنطق في العربية، حيث تستطيع الدقة والفصاحة التعبيرية والنسج القصصي أن يعملوا على تماسك الفكرة وتسلسلها بشكل سردي مميز، فستصل بك العربية إلى حقيقة الأشياء بلا ملل وبلا أسلوب جامد رياضي، كما نرى الآن من تتداخل البلاغة مع المنطق بشكل عبقري في علم اللغويات الحديثة، فكما يمكن لكثرة الألفاظ والتلاعب بالجماليات أن يكون مضللًا وداعي سفسطة، فلا شك أن التبحر في المعجم ومعرفة اللغة يساعدك على الوصول إلى أدق منطق، حيث تضع الكلمة التي هي لغة التعبير عن أفكارك في موضعها الصحيح بغير إخلال ولا ذلل.

ومن منطق اللغة نتجه إلى الضفة الأخرى، فللحديث عن الحب في اللغة العربية مذاق آخر. 

هل الحب الذي تعرفه اللغة العربية الشاعرة مختلف عن الحب الذي تعرفه اللغات الأخرى؟

يرسخ ابن جني لارتباط الحرف بالمعنى، فيدلل على ارتباط حرف الحاء بالحرارة، خذ عندك:

الحميم-الحريق-الحطب-الجحيم.

ألفظ  الحب في اللغة العربية، وتأمل حرارة الكلمة حين تقولها، فكأن مشاعر المحبوب تضطرم وينطق بها إذ قال الكلمة، صف لي بربك إن استبدلت لفظة الحب العربية بلفظة من لغة أخرى، من أين لبيان باقي اللغات بهذه الحرارة واللوعة التي ينطق بها ويزفر بها المحبين العرب؟

كيف يختلف الحب في اللغة العربية الشاعرة عن غيرها من اللغات؟

فلنبدأ بالمشهد الحالي، حيث يتم تعريف الحب بصورته الحالية بالحب السائل، فسيولته ترتبط بسهولة القدرة على الولوج إلى عالمه السحري المليء بالفانتازيا، وترتبط بالقدرة على الخروج منه بسهولة أكبر، تخيل معي أشهر تطبيقات المواعدة عبر الإنترنت والتي تستطيع من خلالها أن تجد في دقائق معدودة، عدة أشخاص، يتطابقون مع ما أردت من صفات، فتقارن بينهم وتبدأ التعارف من خلف شاشة بضغطة زر، فتنتابك فورة البداية بعواطف محمومة لطالما أردت التعبير عنها، ثم تمل وتزهد وتنهي العلاقة التي لم تبدأ في نظر الحب الحقيقي بعد بضغطة زر أخرى! 

باومان صاحب نظرية السيولة التي تصف مجتمعات ما بعد الحداثة يشبه الحب الحقيقي بالموت، كلاهما له أوان فريد ومطلق، ويرى أنه من غير الممكن أن يحب المرء مرتين، كما لا يمكن أن يموت فرد مرتين. أما ما يحدث الآن من تجارب، يشير إلى اتساع نطاق التجارب التي تندرج تحت كلمة الحب، ولكنها ليست بالحب. 

يمكنك مطالعة الكتاب من خلال الرابط التالي:

باومان

هل استخدام كلمات مثل: كراش، ريد فلاج، توكسيك يؤثر على الطريقة التي نشعر بها؟ 

اللغة غير منزوعة السياق الثقافي، فنحن الآن في عصر التواصل الإلكتروني والانفتاح الرهيب، ونستخدم مفردات غربية للتعبير عن حالة العلاقات وتطورها، فيسهل على الفتاة أن تعتبر شخصًا ما “Crush” وتعد عملية مراقبته وإيهام النفس بالحب بأنها  تجربة حب حقيقية وبئسًا بها أن تكون كذلك، بينما إن وصفت هذه الحالة في العربية ستأخذ لفظة كالإعجاب التي يعرفها المعجم بأنها “النظر إلى ما يثير الإعجاب والدهشة.”

 وليس النظر كالمعايشة، ولا العشق الذي جذره اللغوي أن يتعشق شيئان معًا فيلتحما فلا تكاد تفرق بينهما يشبه من رأى شيئًا واستحسنه بأي حال. 

قس على هذه اللفظة ما يمثلها من ألفاظ “ex” و “rebond” و “toxic” و “red flag” وقارن السياقات المجتمعية التي نتجت عنها مثل هذه الألفاظ، وسهولة المشاعر، والقبول بالحد الأدنى من التحرك القلبي لعد ذلك تجربة، بدلًا من السير في الحياة، وتمييز المراحل المختلفة والمعاني التي يزخر بها المعجم العربي، وتجارب العربي الإنسانية في الغزل والمشاعر التي حوتها القصائد، باعتبارها تأريخ مجتمعي شاهدة على تصور الحب في أزمنة كانت العربية فيها سيدة الحب والشعور.

الحب على طريقة أبو العلا البشري:

استمع مثلًا لهذا السيناريو البديع من أحد المسلسلات التي تلفظ بالعربية وإن كانت غير فصيحة:

الحب المثالي – رحلة أبو العلا البشري

وقارن بين نظرة الإنسان العربي الذي يمتثل لعربية المشاعر، بنظرة الجيل الحالي الذي خفت ألفاظه العربية وتزي بألفاظ غربية لا تعبر عن تجاربه. 

هل يستويان؟ 

حتى في وقع الكلمة على النفوس، ستجد اللفظ العربي أشد أثرًا وعمقًا في النفس، وأدق في استجلائه لحالات المحب من وصل وفراق وزهد واشتياق، فبأي ثمن بعنا العربية؟

 وبأي ثمن بعنا الحب بصدقه وشغفه ولوعته وصبوته لكي نشتري علاقات وهمية مائعة؟ 

هنا يا صديقي: حين نخلط العربية بغيرها، تفقد كونها اللغة الشاعرة، فتخرج من حقيقة الأشياء لأوهام ضلالية، أعيذك من أن تتبعها.

إن العربية لمن أراد أن يعيش الحياة حق عيشها لا أن يمر عليها، ولا عيش بلا تعبير، فكيف تضبط العربية لديك، وتفعل كل إمكانيات اللغة الشاعرة وإمكانياتك اللغوية لتظهر فكرك وتؤثر في غيرك؟ 

اتبع معي هذه الأسرار السبع لتكتب كتابة شاعرة، وتنطق لفظ شاعر، يقنع ويمتع ويشعل الشعور، هل استعددت للإقلاع وربطت الأحزمة؟ ✈️

7 أسرار لتتقن كتابة المحتوى بشكل أكثر شاعرية 

     1. الحكي، القصة، الحبكة…

لا يخفى عليك استخدام الـ storytelling لكتابة تسويقية أو تعليمية بديعة

أما ما يخفى هو اعتبار هذه المناهج التسويقية مناهج أجنبية في نشأتها

واعتبارنا مقلدين في هذا مذهبهم، بينما العربية تعج بالقصص الأسطورية التي فاقت كل اللغات نظمًا.

 

ويمكنك أن تقرأ في أنواع القص والحكي في الأدب العربي، بل وتستطيع أن تتبع وتلحظ الأساليب القصصية المختلفة التي وردت في الذكر الحكيم:

  • تارة تبدأ القصة من النهاية ثم يتم استرجاع الأحداث كشريط الذكريات
  •  وتارة تبدأ القصة بحكمة وعبرة
  • وتارة تُنثَر مشاهد خاطفة متفرقة في مواضع عدة، إن تتبعها تجد في تفرقها نفسه بهذه الصورة عظمة قصتك. 

ما العناصر التي يجب أن تتبعها لتحكي قصة نشاط تجاري أو منتج ما أو أيًا كان ما تحكيه؟ 

  •  لا قصة بلا عقدة، ولا منتج يحل مشكلة بلا مشكلة في الأساس، لذلك إن أردت أن تبرز معلومة فيجب أن تبرز المشكلة التي تترتب على عدم معرفة هذه المعلومة، وإن أردت أن تبيع منتجًا فيجب أن توضح لماذا هذا المنتج هو الحل المثالي للمشتري؟ 

 

  • تفقد الأشياء قيمتها إن زادت عن الاحتياج، تمامًا تمامًا كالمبدأ الاقتصادي المتعلق برغبات المشتري، وتناقص احتياجه بزيادة وفرة ما يرغبه بعد تغطية حد كفايته، لذلك اجعل منتجك القطعة الوحيدة التي لا شبيه لها، اجعل قصتك القصة الملهمة التي لم تسر أحداث أي رواية أخرى في نفس طرقاتها، فالندرة تولد الاحتياج، للأسف حتى لو لم يكن هذا الاحتياج حقيقي. 

 

  • لو سمعت عن المثلث البلاغي لأرسطو الذي بنيت عليه الخطابة وبناء الحجج، فلا بد أنك تعلم ما أهمية مصداقية ما تقوله، اذكر مراجع مهمة أثناء حكيك، استشهد باقتباسات لعظام تدلل على فكرتك، أو حتى آراء لأشخاص اشترت منتجك وكيف غير حياتهم، فالثقة هي الأهم. 

 كما يمكن أن تبحر للتعرف على مثلث البلاغة من هنا:

مثلث البلاغة

  • ولا بد بالطبع أن يكون أسلوبك السردي مميزًا وبليغ. ومن هنا سنقلع إلى النقطة الثانية.

    2.المجاز والتصوير الأدبي في اللغة الشاعرة

لم أجد أبلغ من اقتباس العقاد:

«شرط اللغة علينا أن نصنع كما صنع أهلها، فنجدد في المعاني من طريق المجاز.»

لا يحثك العقاد على استخدام المجاز المهلوك المستساغ، بل أن تصنعه على عينك وتجدد فيه، أن «تأتي بما لم يستطعه الأوائل» فتجد لفكرتك طريقة جديدة وتشبيهات مختلفة، اللغة العربية شاعرة ومتجددة عزيزي الكاتب، تذكر هذا دائمًا.

محمود درويش واللغة الشاعرة

لا يشترط أن تكون شاعرًا أو أديبًا ليصفك أحدهم بما وصف به الشاعر المعاصر أحمد بخيت بأنه: «صاحب بكر الصور.» أي الذي يلد الصور أبكارًا لم تمسهم أيدي غيره من قبله، دلالة على ابتكاره وتجديده وخياله الواسع.

 

وذلك لأن اللغة العربية نفسها مرنة وقادرة على توليد المجاز كما أسلفنا الذكر. فلا تخاطب القارىء بشكل جاد علمي خالي من البديع والمجاز بحجة الرسمية

بل استغل المجاز والبلاغة لتعطي روحًا حية وتجسم ما تريده

فيصل إلى ذهنه وفؤاده بصورة أفضل، فيحب أن يستمع لك. 

 

فليس الذي يبيع سكينًا لتقطيع اللحوم بوصفه:

حادًا كالسيف ما أن ينسل ويلامس سنه اللحم حتى تقطعه في لمح البصر.

كمن يصفه: سكين قوي حاد. 

لا شك أن الصورة المتولدة لديك وأثر الجملة على نفسك مختلف على بساطة المثال المذكور

ما بالك لو أتقنت الأمر وأحسنت التلاعب بالتصاوير؟ 

   3. استخدم المعاجم أثناء الكتابة، وأعدك أن تختلف أصالة محتواك ١٨٠ درجة بعد تطبيق هذه النصيحة

جذور اللغة العربية لينة غضة، إن تُشكلها تتشكل

وبمعرفتك لمصدر الكلمة وجذرها ومعنى هذا الجذر بشكل عميق

تستطيع أن تتلاعب بالمفردات، حتى وإن لم تكن عليمًا بها من قبل

العربية تتسع لتشملك وستهديك المعاني فقط إن تصفحت المعاجم بالأمثلة التي تتلوها عليك.

    4. اللغة العربية الشاعرة لغة منطقية

ليست منطقية اللغة فقط في بنيتها وتراكيبها وارتباط المعاني بالألفاظ وغيرها،

ولكنها تجعلك تفكر بشكل متسلسل، خاضع للتفحيص والتمحيص، ويمكنك أن تتأكد من منطقية أفكارك بعدة طرق:

  • حين تسرد القصة، لا تقول كل شيء مرة واحدة، ولكن اكشف عن فكرتك على أجزاء، بحسب ما يتحمل هذا السياق. وما إن تتأكد من بيان الجزء الأول، تابع سرد بقية أجزاء الحكاية، فالمنطق موقوف على استيعاب المتلقي له، فلا تتعجل البيان عن كل ما يدور بذهنك مرة واحدة.

منطقية اللغة العربية الشاعرة

  • بعد أن تنتهي من التفكير والكتابة، اترك ذهنك لتختمر فيه الأفكار، ثم عد مرة أخرى وأعد الكتابة. كنصيحة شيماء المعتادة بأن نترك المقال يومًا ثم نعود إليه لكي ندقق وليس التدقيق هنا فكريًا وفقط ولكن فكريًا ومنطقيًا كذلك، فترابط الأحداث لا يأتي إلا بعد طول معاصرة ومعايشة للأفكار. 

ويمكنك أن تتعرف على الدليل الشامل لتصبح كاتب محتوى محترف على طريقة شيماء عفيفي من هنا:

كيف أصبح كاتب محتوى؟ الدليل العملي الشامل من البداية للاحتراف

    5. اللغة العربية الشاعرة لغة عاطفية 

أكاد أجزم أنك ككاتب محتوى باللغة العربية لديك مزية للتأثير على مشاعر من يقرأ لك أقوى من أي لغة أخرى!

إن جيشان المشاعر والرومانتيكية عل  الطريقة الغربية ليست هي المذهب المتبع للتأثير في النفوس وإثارة شعورها.

 

إنما هي اللغة الخصبة الموسيقية الشاعرة الغنية

التي ما إن تبدر ما شعرت بها فتطرح لك أزهارًا يتطوح لها السائرين كأنهم سكروا.

وإن أردت مني المفتاح الذهبي لكي تملك ناصية المشاعر في اللغة العربية:

كن صادقًا. 

بهذه البساطة…

     6. اللغة العربية الشاعرة سيمفونية العرب

لا الآلات تسعفك، ولا الأصوات العذبة تكفيك لكي تخرج الكلمات منك منغمة كما في العربية. 

  •  انتبه للمسافة التي تنظم بها كلماتك

(فإن أسرعت الرتم،

وأكثرت فردية الوصف)

(سيختلف الأثر عن إذا ما أطلت وتوقفت للتنفس والتعبير عن الفكرة برتم بطيء.)

هل لاحظت الفرق؟

استغل علامات الترقيم وتنظيم المسافة لتنويع النغم بحسب ما يتطلب المعنى، هذه واحدة.

  •  انتقي من مترادفات المعجم ومن مشتقات الكلمات ما يتوافق وحالة النص والغرض منه. فأنت تعلم الآن كيف يختلف الوقع الموسيقي وأثر ذلك في الحالة النفسية للمتلقي بين كلمتين لهم نفس الحروف باختلاف حرف واحد.

     7. اقرأ واستمع للعربية كثيرًا لكي تصبح عربيًا 

ليست العربية هُوية المولد، ولكنها تتسع لتشمل متمرسيها الذين يقدرونها.

 

فأنت إن وقفت أمام بعض النصائح ووجدت صعوبة في التنفيذ، فلن تعجز إن وسع اطلاعك. فاللغة سليقة، وتحتاج دائمًا إلى التغذية.

ثم من بعدها ستنساب من فمك الحروف كما ينساب الماء العذب ويتهادى التيار النهري. إن لم تقرأ هذا المقال، ووددت جملة واحدة تلخصه لك فهي:

((نصف امتلاكك لناصية العربية، ونصف تذوقك لجمال الحرف العربي، موقوف على كثرة الاستماع وكثرة القراءة للعربية الفصيحة.))

ويمكن أن تبدأ من هنا بمسلسل ربيع قرطبة، الذي ألقت شيماء عليه أضوائها، لعله يرشدك. 💚

مسلسل ربيع قرطبة

في النهاية:

لا تنس أن تخبرني

هل شاركتني الاستماع إلى الأطلال أثناء قراءة المقال؟